الفكر الإسلامي

 

محاوراتٌ في الدِّين

الحلقة (8)

 

بقلم :   الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م

رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند

تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي*

  

 

  

 

 

يقف القسيس معترضًا :

       بينما كانوا كذلك إذ وقَفَ القسيس «جون نولس» وأراد أن يقول شيئًا عن النسخ، فما إن نطق بلفظة أو لفظتين، حتى التفت إلى الشيخ محمد قاسم وقال له : «ماذا قلت في كلمتك أيها الشيخ؟» فقال الشيخ: عجبًا! إذا نسيت الأمر الأصليّ فلماذا وقفت معترضًا؟ فتضاحك معظم الحضور في الاجتماع حتى القساوسة؛ فتحامل القسيس على نفسه، وقال: إن النسخ لا يكون في الأخبار عند المسلمين، وإنما يكون في الأحكام، وإن الآيات القرآنية بعضها منسوخة التلاوة والحكم، وبعضها منسوخة الحكم وبعضها منسوخة التلاوة .

المعنى في بطن الشاعر :

       هكذا قال ، وجَلَسَ مُنْهِيًا كلمته كالمعتاد، ولم يدر أحد من الحضور على أيِّ شيءٍ اعترض القسيس ، ولم يفهم إلا القسيس وفقاً للمثل السائر: «المعنى في بطن الشاعر» (1) أظنُّ أنه – كذلك – لم يفهم معنى كلمته ، وإذا تكلفنا وقارنا بين كلمته وكلمة الشيخ توصلنا إلى أن معنى كلمة القسيس هو أن إخراج الآيات المنسوخة التلاوة يعني اعترافًا بالنقصان في القرآن.

القرآن  لا يُقَاسُ بالتوراة والإنجيل :

       أذكر أنَّ الشيخ ردَّ عليه قائلاً: إذا عَلِمنا يقينًا بما نَزَلَ من القرآن ، وما بقي الآن، وماذا كان الحكم أولاً، وما هو الحكم الآن؛ ثم إنّ كلَّ ما وقع من النسخ في القرآن هو بأمر من الله وتصرفه، فمن الظلم العظيم قياس القرآن بالتوراة والإنجيل .

القسيس «نولس» يعترف بالتحريف في الإنجيل :

       ثم قال القسيس «نولس»: إنَّ هذه العبارة زائدة ،وما كتبه قَسَاوِسَة «ميرزا فور» على هامش الإنجيل صحيح، فطباعتنا هذه العبارة واعترافنا بزيادتها تدل على صدقنا وأمانتنا ، فما كان خَطَأً خطَّأناه ، لا صدَّقناه . فقال الشيخ: منصور علي: متى قلنا: إنكم كاذبون، بل إنكم صادقون، ولكن ديانتكم كاذبة باطلة. وقد ثـَبَتَ كذبها وبطلانها باعترافكم .

       وقال الشيخ محمد قاسم: إن كانت هذه العبارة زائدة فأخرجوها من الإنجيل، وتوبوا عن عقيدة التثليث. فقال القسيس «جون طامس: قد أُمِرْنَا بذلك بأسلوب آخر. ثم التفت الشيخ محمد قاسم إلى القسيس «نولس» وقال له: إذا ألْقِيَتْ قطرة من البول في كأسٍ مملوءةٍ ماءً، فتنجِّسُ القطرةُ الماءَ كلَّه، والماءُ – رغم كونه أكثر من القطرة بأضعافٍ مضاعفة – لايُطهِّر القطرةَ.

صاحب الخصال القبيحة يتحايل :

       لقد ظفِرَ القسيس بحيلة إثارةً للصياح والضجيح ، فوقَفَ وقال: الإنجيل كلام الله، وهو أجَلُّ من يُمْزَجَ به نجاسة، فلا تُشَبِّهوه هذا التشبيه القبيح . مع أنَّ صياح القسيس وضجيجه لم يكن على حق، لأن الشيخ شبَّه الإنجيل بالماء الطاهر، ولم يُشبِّهه بالماء النجس؛ كما شبَّهَ العبارة الزائدة بالقطرة النجسة: قطرة البول، وليس في ذلك إساءة للأدب، بل لو قيل «زيادة عبارة في الإنجيل» سوء أدبٍ لكان صوابًا.

عندي عشرات من الأمثلة :

       رأى الشيخ – كما قال هو – النقاش في تطبيق المثال غيرَ مُجْدٍ، ومخافة أن ينتهي الوقت قال: أيها القسيس! إلى متى تتحدث بمثل هذه الأحاديث؟ فإن كنت تعترض على مثالٍ، أورد عشراتٍ من الأمثلة. وقل ذلك لمن ليس عنده إلا مثال واحدٌ؛ فإن كنت لاتريد أن تسمع هذا المثال، فاسمع مثالاً آخر.

مثال عجيب:

       إذا كان رجل بارعَ الجمال، لايباريه أحد في الجمال؛ إلا أنه أعور ، فنقيصته هذه: العَوَر تُفْسِدُ عليه جماله كلَّه . وتناسب أعضائه الأخرى وجمالها لايجعل نقيصتَه فضيلةً .

       كذلك إن كان في وثيقة موضعٌ مزوَّر، فصحة باقي الوثيقة لاتجعل الموضع المزوَّر صحيحًا وموثوقًا به ، وإنما تعود الوثيقة كلها – لأجل ذلك الموضع المزوَّر – غير موثوقٍ بها .

       فمن العجيب أن تكون مثل هذه الوثائق غير موثوق بها في القضايا الدنيوية ، ومتاع الدنيا لا يُعْبَأ به عند العقلاء ، وتكون موثوقًا بها في القضايا الدينية !!

القاضي :

       ومن المصادفة أن حضر قاضي محكمة «شاه جهان فور» أثناء كلمة الشيخ ، وجلس أمامه. فقال الشيخ مشيرًا إليه للقسيس: «هذا قاضينا وحكمنا في قضيتنا؛ إذ هو يقضي في قضايا النَّاس ويفصل منازعاتهم» ثم التفت إلى القاضي وقال له: «أيها القاضي إذا عُرِضت عليك وثيقة مزوَّرة، وانكشف تزويرها بإقرار المدعي أو بطريقةٍ أخرى، فما القانونُ الحكوميُّ عنها ، وماذا تقضي في القضية ؟

       فابتسم القاضي وظلَّ صامتًا .

       قال بعض النَّاس: إنّه قال القاضي : «الدعوى مضطربةٌ، والوثائقُ مرفوضةٌ، والحكمُ على المدعي والشهود بالحبس أربعة عشر عامًا» أظنُّ أنَّ القاضي قال ذلك لمن حوله من المستمعين، وعندئذٍ سَمِعَ آخرون . وقال بعضهم: قال هذه القولةَ «موتي ميان» أو الشيخ «عبد الحي» غير أنّ كاتب السطور لم يسمع من أحد. على كلٍ فمن قَالَ فقد أَنْصَفَ .

لايجترئ القسيس إذا كان فيه شيء من الغيرة :

       نعم سمعت أمرًا آخر، وهو أني حضرت مجلس الشيخ محمد علي صباح ليلة عدت فيها من «تشاندا فور» إلى «شاه جهان فور» ، وكانت المناظرة في «تشاند فور» حديث المجلس؛ فإذا رجل حَضَرَ، يبدو أنه من معارف الشيخ، فذكر مما ذكر أنَّ القاضي قال: «إني حضرت بينما كان الشيخ يلقي كلمته على موضوع النبوة، فأعجبت بكلمته أشدَّ الإعجاب، ثمَّ أفحم القسيسَ بحيث لايجترئ إذا كان غيورًا. ما كنّا نتعارف، ولا أدري كيف عَرَفنيَ هو ، حتى قال لي مرة بعد أخرى: «أيها القاضي! أنت الحكم فينا، أنت تقضي في قضايا الناس، أنت تقضي في قضيتنا اليوم».

لم يقم القسيس محي الدين مرة أخرى :

       وجملة القول أنَّ القساوسة لم يحيروا جوابًا على ما قال الشيخ منصور علي و الشيخ محمد قاسم. وقد حان وقت صلاة المغرب، فَفُضَّ عِقْد الاجتماع، وبعد هاتين المرتين اللتين ذُكِرتا لم يقم القسيس محي الدين مرةً أخرى . وقد تشجَّعَ مرةً للقيام، إلا أنَّ القساوسة نظروا إليه شزرًا ، وكانوا في ذلك على حقٍ؛ لأنه هو الذي جرَّ الندامة إليهم، ولذلك قال الشيخ منصور علي للقساوسة ساخرًا منهم : «لاتدعوه حتى يقوم، فيَفْضَحَكُم».

       أما الهندوس فلم ينبس أحد ببنت شفةٍ من بداية الاجتماع إلى نهايته .

ينتهي الاجتماع :

       على كلٍ فقد انتهى الاجتماع عندما مالت الشمس إلى المغيب، ورجع علماء المسلمين إلى الخيام . كان الشيخ منصور علي والشيخ محمد قاسم جالِسَيْنِ في الخيام بعد المغرب ، فقال واحد ممن حضر للشيخ محمد قاسم: قد بقي الردُّ على الاعتراض عن الصلاة على محمد وأفضليته الذي أثاره القسيس محي الدين ، فماذا رددت عليه إذا رددتَ ؟

الردُّ على الاعتراض الرابع :

       قال الشيخ : لايُوْرَدُ اعتراض القسيس محي الدين على أفضلية محمد بسبب تشبيهه بإبراهيم عليه السلام في الصلاة ، لأنَّ كونَ المشبّه به أفضل يجب في التشبيهات المجازية ، لا في التشبيهات الحقيقية ، بل يجب أن يتساوي المشبّه والمشبّه به في وجه الشبه ، ولا يتفاضَلا فيه ، وإلا يكون التشبيه خاطِئًا ، وفي الصلاة تشبيه حقيقي لامجازي .

شبهة :

       نعم هناك شبهةٌ ، وهي أنه – مع هذا – لا تَثْبُتُ أفضلية محمد ؛ لأنَّه إن لم يكن المشبّه به أفضل من المشبّه في التشبيه الحقيقي فوَفْقًا لما ذكر وجب أن يكونا متساوِيَيْنِ ، إذًا فمحمد وإبراهيم عليه السلام يكونان متَسَاوِيين ، لامتفاضلين .

الردُّ الأول :

       والردّ الأول على هذه الشبهة أنه يجب أن تتساوى النسبة في التشبيه في النسبة، ولا يجب أن يتساوي المنسوب إليه والمنسوب، فمثلاً: نقول: إنَّ للواحد مع الاثنين من النسبة ما لعشرة ملايين مع عشرين مليونًا، فالنسبة فيما بين هذين الأمرين – بحكم التشبيه – متساوية، والمنسوب إليه في هذه النسبة والمنسوب إليه في تلك النسبة لايتساويان، كما لا يتساوىٰ المنسوب في هذه النسبة والمنسوب في تلك النسبة ، أي الواحد وعشرة ملايين لايتساويان ، كما لايتساوى الاثنان وعشرون مليونًا .

       كذلك نقول: «كما تكون الروح تكون الملائكة» أي إن كانت الروح طاهرةً، يقبضها عند الموت ملائكة الرحمة، وإن كانت الروح نجسَةً يقبضها ملائكة العذاب .

       ونقول : «كما تكون الروح يكون الجسم» أي إن كانت الروح روحًا إنسانية كان الجسم جسمًا إنسانيًا، وإن كانت الروحُ روحَ خنزيرٍ كان الجسم جسمَ خنزير .

       إلا أنّ الناس جميعًا يعلمون: أين أرواح بني آدم من الملائكة؟ وشتان ما بين الأرواح والأجسام، وهذا لايعني أنه تتساوى أرواح بني آدم والملائكة، وأرواح بني آدم وأجسامهم. فهذه الأشياء في هذه الأمثلة لاتتساوى مع صحة التشبيه؛ لأنه يجب تساوي النسبة في التشبيه في النسبة، لاتساوي الأطراف .

       قياسًا على هذا نقول: «كما تكون الشمس يكون نورها» «كما يكون القمر يكون ضوءه» «كما تكون البذرة يكون الغصن والأوراق» كما تكون الشجرة تكون الثمرة» وهكذا التشبيه في الصلاة على محمد .

       بيان هذا الإجمال أنَّ سلاسل النبوة – كسلاسل التصوف – متعددة ، فسيدنا إبراهيم عليه السلام وسيدنا إسماعيل عليه السلام وسيدنا محمد في سلسلةٍ ، وقد بَدَأَتْ هذه السلسلة من سيدنا إبراهيم عليه السلام وانتهت بمحمد . وسيدنا يعقوب عليه السلام وأولاده وسيدنا موسىٰ عليه السلام في سلسلةٍ، وقد بدأت هذه السلسلة من سيدنا يعقوب عليه السلام وانتهت إلى من بعده .

       ففي السلسلة الأولى سيدنا إبراهيم عليه السلام كالبذرة ، وسيدنا محمد كالشجرة الكاملة المورقة المثمرة . وهكذا في السلسلة الثانية سيدنا يعقوب عليه السلام كالبذرة وسيدنا موسى عليه السلام كالشجرة الكاملة .

       فكروا كيف يلزم التساوي مع إمكان صحة التشبيه، وكيف لا تثبت أفضلية محمد .

الردّ الثاني :

       والردّ الثاني هو أنه افترضوا أنَّ رجلاً ذا ماشةٍ(1) من الذهب يريد أن يشتري ألف منٍ(2) من الذهب ، فيقول : «أريد أن أشتري كهذا» فهذا التشبيه صحيح، إلا أنه لايعني ذلك أنَّ ماشةً من الذهب وألف منٍ من الذهب يستويان. وأنَّ لصاحب ألف منٍ من الذهب من المكانة مالصاحب ماشةٍ من الذهب، بل المراد من هذا النوع، وإنما يراد بالتشبيه التشبيه في النوع، فيجب التساوي فيه .

       إلا أنَّ التساوي في النوع لايقتضي أن تتساوى المراتب الشخصية فلا يَلزم كون صاحب الألف منٍ من الذهب أفضل ، وصاحب الماشة أقلَّ مكانةً، كذلك الشان في الصلاة على إبراهيم، ويراد التشبيه في النوع، فكما أنَّ صاحب الألف منٍ من الذهب أفضل من صاحب الماشة من الذهب كذلك سيدنا محمد أفضل من سيدنا إبراهيم عليه السلام .

القساوسةُ يدعون إلى التغيير في شروط المناظرة :

       بينما كانوا على ذلك إذ دَخَلَ المنشئ «بيارى لال» على الشيخ محمد قاسم وقال له: قد حَضَرَ القسيس «إسكات» وغيره من القساوسة وتحدثوا عن شروط المناظرة، فقالوا: إنّه لاينبغي أن يَقِلَّ موعد كلمة عن ساعة، وكان رأي المسلمين في هذا الشأن صحيحًا ؛ لأنّه ماذا عسى أن يلقي أحد في ساعة؟ لذا بعثني القساوسة بأنّ ما تحدّدونه من ساعة لكلمةٍ واحدةٍ يوافقونكم على هذا التحديد .

       قال الشيخ: نحن لانوافق الآن ، وقد حاولنا إرضاء القساوسة بتحديد ساعةٍ نحو ثلاث ساعاتٍ، ولكنهم لم يرضوا بذلك أصلاً . وأما الآن فلما قال القسيس «إسكات»: إنه ينبغي أن تُحَدَّدَ ساعة، قالوا: نحن راضون بتحديد ساعة. نحن لسنا محكومين للقساوسة، وليسوا هم حاكمين للمعرض، فيفعلوا ما يشاؤون ، ثم قال الشيخ للمنشئ: إننا لاننكر تحديد ساعةٍ، وإنما نريد أن نبعثهم على الخجل على ما فعلوا من إصرار وعناد .

       ثم قال الشيخ للمنشئ : لعلَّ القساوسة الآن يطلبون أن يُدْخَلَ اسم القسيس «إسكات» ضمن المناظرين والذين تمَّ تعيينُ أسماء خمسة أشخاصٍ لإلقاء الكلمة والمناظرة ، فيُغيَّر في شروط المناظرة. فقال المنشئ : إنهم يطلبون ذلك أيضًا . ويقولون: يضُمُّ علماء المسلمين إلى مناظريهم من يشاؤون .

       وإن كان كل ذلك وفقًا لما رأى الشيخ ؛ لأنَّ الشيخ محمد علي حضرَ بعد المغرب، وأراد الشيخ محمد قاسم والمناظرون من المسلمين أن يُدْخَلَ اسم الشيخ محمد علي ضمن المناظرين لنبوغه العلمي ؛ بل نظرًا لمقدم المنشئ «اندرمن» وجَبَ أن يُدْخَلَ اسمه، بل كان قد دُعِيَ الشيخ للمناظرة خاصةً ، إلا أنّه مكافأةً لعناد القسيس وإصراره وإفحامًا له قال الشيخ محمد قاسم: إنه لايمكن تغيير في شروط المناظرة الآن. ثم قال: أيها المنشئ ! إنّا لا نُصِرُّ على أمرٍ إصرارًا ، إلا أنّه نظرًا إلى استبداد القسيس برأيه وعدم قبوله لما قلنا نقول: لايكون تغيير الآن ، فأَبْلِغْهم عنّا ذلك . وأما نحن فنفعل ما يقتضيه الوقت .

القساوسة يتحايلون :

       ثم التفت الشيخ إلى المنشئ وقال له: هل رأيت أيها المنشئ ! كيف يتحايل القساوسة على علماء المسلمين للحيلولة دون التعبير عن أغراضهم وإثبات دعاويهم ، فحينًا يقولون: لايجري الحوار أكثر من يومين ، وحينًا آخر يقولون: لا يعطى الوقت لإلقاء الكلمة أكثر من أربع دقائق إلى عشرين دقيقةً . فليسئل أحدٌ القساوسة : من يَزِنُ كلمته من ذي قبل ، فيُلْقيها في وقت حدَّده الفريقان؟! فمحاورات في الدين كيف يمكنُ خوضها في غضون خمس أو عشر دقائق ؟.

       وقال الشيخ في بعض الأحيان : إذا كان دين فيه فضيلة أو فضيلتان فيكفيها بضع دقائق . وأما إذا كان دين فيه آلاف من الفضائل فكيف يمكن بيانُها في هذه المدة القصيرة .

القساوسة يرتاعون منك :

       قال المنشئ ردًّا على ما قال الشيخ: إنّا نعلم أنَّ القساوسة يرتاعون منك ، وأنهم لاقِبَلَ لهم بك. ثم قال الشيخ: أيها المنشئ ! إنَّ من أكبر شكاوانا إليك أنّا نحن علماء المسلمين والقساوسة ضيوفاً عليك ، فكان عليك أن تُعَامِلَنا معاملة السوية ، إلا أنّك تميل إليهم ميلةً واحدةً، وتؤيدهم تائيدًا كاملاً .

فرق بين أخلاق علماء المسلمين والقساوسة :

       فقال المنشئ: نحن خَدَمَتُكم جميعًا، إلا أنه فرق بينكم وبينهم . إنا نخاف أن يسخط القساوسة ، فيذهبوا . ولا نخاف ذلك منكم . على أنكم تطاوعون كلَّ واحدٍ منّا، وأنهم لايطاوعون أحدًا .

علماء الهندوس يُثْنُون :

       ثم رجع المنشئ أدراجه . وذهب الشيخ محمد قاسم والشيخ محمد علي إلى «موتي ميان» في خيمته ، فقال موتي ميان مما قال للشيخ محمد قاسم: كان الباندت «ديانند سرستي» والمنشئ «إندرمن» يُـثْنِيانِ على خطبكما وعلمكما ثناءً كبيرًا .

ضيافة «موتي ميان» وكرم خلقه :

       ثم أضاف «موتي ميان» الحضور وصنع لهم عشاءً شهيًّا ، فتناولوه، فلما صلّوا العشاء لجؤوا إلى مضاجعهم. وقد توافد – بالإضافة إلى أهالي «شاه جهان فور» والقرى المجاورة لها – عدد من الناس من «ديوبند» و «ميروت» و «دهلي» و «خورجه» و«سنبهل» و«مرادآباد» و«رامفور» و «بريلي» و«تلهر» وكانوا جمعًا غفيرًا؛ فلم تسعهم الخيمة التي نَصَبَها «موتي ميان» على طلبٍ من الشيخ محمد قاسم . وكانت أواخر الشتاء بحيث يشتد الرد في ليلة، ويخِفُّ في أخرى . وبالمصادفة قد اشتد البرد في تلك الليلة، مع ريح الصحراء وشاطئ النهر وساعات الليل. ولم يكن هناك شيء يقيهم البرد إلا ظلال الأشجار والخيام .

       لقد أهَمَّ الشيخَ أمر المتوافدين، فذهب إلى «موتي ميان» وأخبره بخبرهم وقال له: إنَّ ضيوفك كثيرون، والخيمة التي نصبت لهم لاتسعهم، ولابدَّ أن تأذن الضيوف الذين لم تسعهم الخيمة المنصوبة لهم أن يأخذوا مضاجعهم في خيمتك. أما كرم خلق موتي ميان وضيافته فحدِّث عنهما ولاحرج! فما إن سمع حتى قال في نبلٍ وكرمٍ: أيها الشيخ! لستَ في حاجة أن تسئلني اليومَ، بل الأجدر أن أسئلك أ أنام الليلة! أمهلني ريثما أطعم الضيوف الباقين .

       وجملة القول أنّ أُناسًا ناموا في موضع وأناسا آخرين ناموا في موضع آخر ملأ الجفون . فلما أصبح الصباح كان أمر الاجتماع شغلهم الشاغل وهمهم الأكبر. بينما كانوا كذلك إذ اقتربت عقارب الساعة إلى السابعة والنصف .

*  *  *

*  *

*

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.

 



* أستاذ بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند ، الهند .

(1) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي 2/55، ط: دار صادر ، بيروت .

(1) الماشة : وزن يُسَاوِي 64 حبَّةً من الأرز .

(2) المن : وزن يساوي أربعين كيلو جرامًا .